فصل: باب من له من الأمراء أن يقبل وأن يقسم وأن يجعل الأرض أرض خراج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب من له من الأمراء أن يقبل وأن يقسم وأن يجعل الأرض أرض خراج

وأن يقبل الخراج قال محمد - رحمه الله تعالى عليه -‏:‏ وإذا بعث الخليفة أميراً على جند من الجنود فدعا قوماً من المشركين إلى الإسلام فأسلموا فهم أحرار لا سبيل عليهم ومالهم وأرضهم ورقيقهم لهم وتكون أرضهم أرض عشر كأرض المهاجرين والأنصار لأن التأمير يقتضي أن يكون فعل الأمير كفعل المأمور والمؤمر وهو الخليفة إذا دعاهم فأسلموا فهم أحرار وأرضهم أرض عشر فكذلك ها هنا والمعنى في ذلك وهو أن الأرض إنما تصير خراجية إذا فتحت عنوة وثبت فيها حق المقاتلة ثم لم تقسم بينهم وتركت على أربابها وقطع حق المقاتلة عنها فتجعل خراجية لكون الخراج للمقاتلة ولمصالح المسلمين وهذا المعنى معدوم فيما إذا سلم أهلها طوعاً فإنه لم يثبت فيها حق المقاتلة فلا يثبت لهم حق في أرضها فجعلت عشرية غير خراجية وإن أبوا أن يسلموا فعرض عليهم الأمير أن يصيروا ذمة ففعلوا فإنهم يكونون ذمة فإن كان الخليفة لم يأمره من ذلك بشيء فكذلك الجواب لأن الخليفة لما فوض إليه أمر الحرب صار مفوضاً إليه ما كان من أسبابه وتوابعه وما هو متعلق به والذمة من توابع الحرب لأنه كما يحارب المشركين ليسلموا فكذلك يجب مقاتلتهم ليقبلوا الذمة قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الَّذِينَ

لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه‏}‏ إلى أن قال ‏{‏حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ التوبة‏:‏ 39 وكما قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ الفتح‏:‏ 16 وروينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله وكان يأمرهم بالدعاء إلى الإسلام فإن أبوا فإلى قبول الذمة فكان الدعاء إلى الذمة من توابع الحرب فيصير مفوضاً إلى الأمير وكذلك لو بعث أمير الجند قائداً من قواده فدعاهم إلى مثل هذا فأجابوه كان في ذلك بمنزلة الأمير الأعظم لأن الأمير أقام قائده مقام نفسه في أمر الحرب وهذا من توابع الحرب ولو دعاهم الأمير إلى الذمة فقبلوا الذمة جاز فكذلك إذا دعاهم القائد يجوز فإن صالحهم الأمير على صلح في كل سنة من رقابهم وأراضيهم فذلك جائز لأن هذا نوع من إعطاء الذمة وقبول الجزية لأن إعطاء الذمة على نوعين إما أن يصالحهم الأمير على إعطاء الجزية المقدرة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره أو يكون الصلح واقعاً على مال مجمل مقدر يؤدون كل سنة فبعض ذلك المال على رقابهم وبعضه في أرضهم كما صالح رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أهل نجران على ألفي حلة كل سنة يؤدونها إليه وكما فعل بأهل طيء وشرج وإن كان الخليفة نهاه عن ذلك لم يجز له ما صنع من ذلك حتى يكون الخليفة هو الذي يقطع ذلك لأنا إنما جعلنا مأذوناً بالصلح والأقطاع على وجه الدلالة فإذا جاء النهي مفصحاً به كان الحكم للأفصاح لا للدلالة إلا أن يكون الخليفة هو الذي يقطع بذلك فيما بينه وبينهم فإن رضوا بما صنع الخليفة وإلا أبلغوا مأمنهم إن أبى الخليفة أن يجيز ما رضوا به من مقاطعة الأمير لأن مقاطعة الأمير وإن لم تجز فتلك المقاطعة تضمنت أماناً لهم فإذا لم يرضوا بمقاطعة الخليفة كان إخفاراً للذمة ونقضاً للعهد فإن أبوا أن يسلموا أو يصيروا ذمة قاتلهم المسلمون فإن قاتلوهم وظفروا عليهم وعلى أرضهم وما فيها فليس لأحد من الناس أن يعرض لشيء من هذه الغنيمة أو غيرها حتى يستطلع في ذلك رأي الخليفة فإن شاء الخليفة قسم ذلك كله فأخذ الخمس لليتامى والمساكين وجعل الأربعة الأخماس للغانمين وإن شاء من عليهم وجعلهم أحرار يؤدون الجزية عن رقابهم والخراج عن أراضيهم لأن الأمير له ولاية على جنده وليس له ولاية على جماعة المسلمين وفي الغنيمة أو المن حق لجماعة المسلمين لأنه إن قسمها بينهم صارت الأرض عشرية والعشر حق الفقراء إلى قيام الساعة وإن منّ عليهم صارت الأرض خراجية والخراج للمقاتلة ولمصالح المسلمين إلى يوم القيامة فثبت أن القسمة أو المن تصرف على جماعة المسلمين فكان الذي يلي ذلك هو الخليفة دون الأمير وكذلك ليس لمن دون الخليفة من الأمراء بعد ما يظهر عليهم أن يقتل مقاتلتهم إذا كان غلبهم وأسرهم وظهر عليهم لأن القتل نوع من المن لما فيه من إبطال حق الغانمين وقد ذكرنا أنه ليس له أن يمن قبل استطلاع رأي الخليفة فكذلك ليس له أن يقتل إذ يكون القتل معتبراً بالقسمة وليس له ولاية القسمة فلم يكن له ولاية القتل وهذا إذا كان الأمير لا يخافهم على المسلمين فأما إذا كان يخاف على المسلمين من جانبهم أو يخاف أن يأتيه جند من المشركين فيكون الأسرى عوناً عليهم فلا بأس بأن يقتل رجالهم بغير إذن الخليفة لأنه إذا كان يخافهم فقتلهم من المحاربة فكان قتلهم في هذه الحالة وفي حالة الحرب سواء ونظيره ما قلنا إذا أسر أهل العدل أسراء من الخوارج فإنه لا يقتلهم أهل العدل إذا أمنوا جانبهم فإذا لم يأمنوهم وخافوا أن ينحازوا إلى فئة قوم فإنه يدفف على جريحهم ويقت أسراءهم فكذلك ها هنا ولو أن الخليفة وجه رجلاً على جند إلى المشركين فظهر على الرجال والنساء والأموال في دار الحرب ولم يظهر على الدار فأخرجهم إلى دار الإسلام فلا بأس بأن يقسمهم فيخرج الخمس للفقراء ويقسم أربعة أخماسها بين الغانمين ولا ينتظر في ذلك إذن الخليفة لأنه إذا لم يظهر على الدار فليس للخليفة حق المن بأن يرد المال على أربابه بل عليه أن يعزل الخمس ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين فليس في الأربعة الأخماس إلا حق المقاتلة وحق أصحاب الخمس تبع لحق المقاتلة فكذلك من كان له ولاية على الجند كان له ولاية على أصحاب الخمس فتصرف هذا الأمير ليس يقع إلا على من له الولاية عليه فجاز أن يشتغل بذلك بخلاف ما إذا ظهر الأمير على الدار لأن الخليفة له حق المن وذلك حق لجماعة المسلمين فتصرف هذا الأمير يتعدى إلى جنده وإلى جماعة المسلمين فليس له الاشتعال بذلك فإن نهاه عن القسمة فليس له أن يقسم لأن الإذن ثبت له دلالة وقد جاء النهي عنه إفصاحاً ولا قوام للدلالة مع النص ولو كان الخليفة بعث على الجند أميراً وعلى المقاسم غيره كانت المقاسم إلى الذي بعث على المقاسم دون الأمير إلا أنه لو نعاه عن القسمة عمل نهيه فإذا فوض أمر القسمة إلى غيره علم تفويضه هذا لأن أمر القسمة يحتاج إلى الحفظ والأمانة وأمر الجهاد يحتاج إلى الجرأة والشجاعة فله أن يفرق الولاية فيجعل أمر القسمة إلى أحسنهم وأحفظهم للمغنم وأمر الجهاد إلى أجرئهم وأشجعهم إلا أن يشركه الخليفة في ذلك فيحنئذ القسمة إليهما جميعاً لأنه خص الأمير بأمر الحرب معهما في أمر القسمة فيراعي تفويضه الخليفة في كل شيء ومن كان إليه القسمة فرأى أن يبيع قبل أن يقسم فبيعه جائز لأنه ربما لا يتهيأ قسمة العين لتعذر التعديل بين الأنصباء فتمس الحاجة إلى بيعها وقسمة أثمانها فصار البيع من توابع القسمة فكل من فوض إليه القسمة على الإطلاق صار البيع الذي هو تبع القسمة مفوضاً إليه كما أنه إذا فوض إليه أمر الحرب على الإجمال صار أسبابه وتوابعه مفوضاً إليه كما أنه إذا فوض أمر الحرب على الإجمال صار أسبابه وتوابعه مفوضاً إليه وإن كان أمر القسمة إلى الأمير فرأى أن يقتل المقاتلة ولا يقسمهم وكان يرى ذلك خيراً للمسلمين فلا بأس بقتلهم في دار الحرب وبعدما يخرجهم لأنه لما ملك التصرف من حيث البيع والقسمة فكذلك من حيث القتل أيضاً ما لم يأت بهم الخليفة لأنه إذا أتى بهم الخليفة فقد خرج من الإمرة لأن إمارته مؤقتة ما دام مفارقاً عن الخليفة فإذا اتصل بالخليفة فقد انتهت إمارته فلا يجوز له التصرف بعد ذلك فهذا كأمير الجند إذا بعث سرية في دار الحرب فكان لأسير السرية أن يتصرف في السرية ما دام مفارقاً لأمير الجند فإذا عاد واتصل بالجند لم يبق له تصرف في أمر السرية فكذلك ها هنا وكذلك الوكيل بالشراء يملك الرد بالعيب ما دام المشتري في يده فإذا سلمه إلى الموكل لم يبق له حق الرد لما أن وكالته قد انتهت فكذلك ها هنا وإن كان الذي إليه المقاسم غير أمير الجند فليس للذي إليه المقاسم أن يقتل المقاتلة لأنه فوض إليه أمر المقاسم ولم يفوض إليه أمر القتال والقتل من القتال فلا يملكه صاحب المقاسم فلو كانت المقاسم إلى غير أمير الجند فأصاب المسلمون غنائم فيها ناس من المقاتلة فأراد الأمير قتلهم فإن كان المسلمون في القتال على حالهم فلا بأس بأن يقتلهم الأمير لأن قتل الأسراء في تلك الحال من القتال وقد فوض إليه أمر القتال وإن انهزم المشركون وبقيت الأسراء في أيدي المسلمين فإن كان المسلمون يخافونهم أو يخاف المسلمون أن يأتيهم العدو فيكون الأسراء معهم فله أن يقتلهم لأن الحرب ما دام باقياً يجعل كأن القتال باق وله أن يقتلهم في حالة المقاتلة فكذلك ها هنا وإن كان المسلمون لا يخافونهم فليس ينبغي للأمير أن يقتلهم لأنهم قد صاروا فيئاً للمسلمين وثبت حق القسمة لصاحب المقاسم فليس للأمير قتلهم وإن قتلهم الأمير فلا شيء عليه لأنهم أهل حرب لا أمان لهم ولو قتلهم غير الأمير فلا شيء عليه فالأمير أولى أن لا شيء عليه إلا أنه مسيء في ذلك لأنه قتل والقتل غير حلال له وإن كان إليه القسمة فله أن يقتلهم لأنه ليس لغيره فيه تدبير من أمر القسمة فكان له أن يقتل كما يكون الخليفة يدل عليه ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أوتى بأسراء فعفا عنهم إلا واحداً أخبر أنه أثخن في المسلمين فقتله قال‏:‏ ولو أن والياً على ثغر من الثغور وجه سرية إلى دار الحرب فأصابوا غنائم فيها مقاتلة فأخرجوها إلى دار الإسلام فليس لأمير السرية من القسمة شيء بعد ما يخرج إلى دار الإسلام لأن إمارته كانت مؤقته وهو أن يكون مفارقاً عن الأمير فإذا اتصل بأمير الثغر مفقد انتهت إمارته فلا يتصرف بعد ذلك وهذا كأمير الجند الذي بعثه الخليفة على الجند إذا انتهى إلى الخليفة لم يكن له من أمر القسمة شيء بعد ذلك فكذلك ها هنا ثم أمير الثغر إن شاء قتل المقاتلة وقسم الباقي وإن شاء ترك القتل وقسم الكل وإن كان أمير الثغر لم ينه صاحب السرية حين أرسله إلى دار الشرك عن القسمة فرأى أن يقسم ما أصاب في دار الحرب فقسمه وعزل الخمس فذلك جائز لأنه وال ما دام في دار الحرب وليس لغير السرية فيما أصابوا حق فجاز له القسمة وإن رأى أن يقتل المقاتلة قبل أن يخرجهم فلا بأس بقتلهم لأن القسمة إليه فكان القتل إليه فإن نهاه أمير الثغر عن القسمة فليس له أن يقسم وليس له أن يقتل من المقاتلة أحداً لأنه مأمور من جهة الوالي فلا يتعدى أمره إلا أن يخاف الأسراء فحينئذ له أن يقتلهم كما يقتلهم في حالة المحاربة ولو أن جنداً دخل أرض الحرب عليهم أمير من قبل الخليفة فوجه السرايا حين دخل أرض الحرب ولم ينفلهم شيئاً فأصابت السرايا غنائم فليس ينبغي لأحد من أمراء السرايا أن يقسموا شيئاً من تلك الغنائم حتى يأتوا بها إلى العسكر لأن العسكر ردء للسرية فلهم شركتهم فيما يصيبون وأمير السرية له ولاية على السرية وليس له ولاية على الجند فلو جاز قسمة أمير السرية كان فيه إبطال حق العسكر من غير ولاية له عليهم وذلك لا يجوز بخلاف السرية التي تدخل أرض الإسلام إذا أصابوا فتصرف الأمير لا يعدو السرية إلى غيرهم وله ولاية على السرية فجازت قسمته فيما بينهم فإن كان أمير العسكر أمر أمير السرية أن يبيع ما أصابوا ويقسم بين السرية ما أصابوا ففعل ذلك جاز ولم يكن لأهل العسكر إذا قسموا فيه نصيب وذلك لأنه لما أمره بالقسمة فقد جعل ما أصابوا للسرية خاصة وقطع حق العسكر عما أصابوا ثم هذا منه وإن كان جعلاً فإنه فصل يسع فيه اجتهاد الرأي فإن ظاهر قول عمر - رضي الله تعالى عنه -‏:‏ الغنيمة لمن شهد الوقعة يوجب أن يكون المصاب للسرية خاصة فالأمير حيث أمر بالقسمة فإنما أمر متأولاً لهذا الحديث وأمر الأمير متى صادف فصلاً مجتهداً فيه نفذ أمره وإن قطع حق العسكر عما أصابوا إذ له ولاية عليهم فجاز قسمة أمير السرية فيما بينهم ولو أن أمير العسكر بعث سرايا ونفلهم أنفالاً فقال لسرية منهم‏:‏ من أصاب رأساً فهو له وقال لسرية أخرى‏:‏ لكم الربع بعد الخمس مما أصبتم وقال لسرية أخرى‏:‏ من أصاب منكم رأساً فله نصفه فخرجوا فأصابوا غنائم فيها مقاتلة فليس ينبغي لأمير السرية أن يقتل منهم أحداً لأنه لو لم يكن فيما أصابوا نفل لم يكن لأمير السرية أن يقتل أحداً من المقاتلة فإذا كان فيه نفل أولى ألا يقتل أحداً منهم فإذا انتهوا بهم إلى لعسكر فليس ينبغي لأمير العسكر أن يقتل منهم أحداً لأنه بنفس الإصابة قد ثبت فيه النفل لأصحاب النفل والنفل حق خاص لأهله لا يشاركهم فيه غيرهم فصار النفل كحق الغانمين في الغنيمة بعد القسمة وليس للأمير أن يقتل أحداً من المقاتلة بعد القسمة فكذلك ها هنا لا يقتل أحداً منهم لحق النفل‏.‏

إلا أن يخافهم على المسلمين أو نظر الجند قد أقبل يريده من المشركين فيخاف أنه إن أتاه ذلك الجند كان الأسراء عوناً عليه فلا بأس بقتلهم لأن في هذا مصلحة ونظراً للمسلمين فكانت هذه الحالة وحالة المحاربة سواء ولو أن جنداً من المسلمين دخلوا دار الحرب وعليهم أمير من قبل الخليفة فدخلوا دار الحرب وخلفوا مدائن كثيرة من مدائن المشركين فنزلوا على مدينة من مدائنهم فدعاهم المسلمون إلى الإسلام فأجابوهم إليه فإن المسلمين يقبلون ذلك منهم إذا أسلموا لأن القتال إنما شرع لقبول الإسلام قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ الفتح‏:‏ 16 فإذا أسلموا يجب القبول منهم ثم الأمير يدعهم في أرضهم ويستعمل عليهم أميراً من المسلمين يحكم بحكم أهل الإسلام لأن المدينة صارت دار الإسلام فلا بد من أمير بينهم يجري فيهم حكم المسلمين فإن كان القوم إذا انصرف عنهم ذلك الجند من المسلمين لم يقدروا على أن يمتنعوا من أهل الحرب وأبوا أن يتحولوا إلى دار الإسلام فإن الأمير يدعهم وما اختاروا لأنفسهم لأنهم أساءوا في الاختيار فيتركهم وسوء اختيارهم ولا يجبرون على التحويل لأنهم أحرار مسلمون في مدينة الإسلام فلا يجبرون على التحويل ولا يدع عندهم أحداً من المسلمين مخافة عليه ألا تطيب نفسه لأن فيه تعريضاً على التلف ولا يجوز تعريضه على التلف إلا برضاه فإن أبوا الإسلام فدعاهم المسلمون إلى إعطاء الجزية فأجابوا إلى ذلك وأبوا التحول من دارهم وقالوا‏:‏ اعطونا العهد على أن نكون في موضعنا لا نبرح فإن كان المسلمون إذا أقاموا معهم يقوون على أهل الحرب وكانوا ممتنعين منهم فلا بأس بأن يجعلهم الأمير ذمة ويجعل عليهم أميراً من المسلمين يحكم بحكم المسلمين ويجعل مع الأمير من المسلمين من يقوى على المقام معهم في دارهم لأن قبول الفرقة واجب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ التوبة‏:‏ 29 وهذه ذمة منهم لأن الأمير يجري عليهم حكم المسلمين وبإجراء الحكم عليهم يصيرون ذمة ومدينتهم تصير مدينة الإسلام فيقبل ذلك منهم‏.‏

وإن كان هذا الموضع لم يقو من ترك فيها من المسلمين على أهل الحرب ولم يقدروا على أن يحكموا فيها بحكم الإسلام لم يسع للمسلمين أن يجيبوهم إلى هذا ولكنهم يجعلونهم ذمة إذا خرجوا بعيالاتهم إلى أرض الإسلام لأن دار الشرك إنما تصير دار الإسلام بإجراء حكم المسلمين فيها وأهل الشرك إنما يصيرون أهل الذمة بإجراء حكم المسلمين عليهم وقد عجز الأمير عن إجراء حكم المسلمين عليهم فكانوا في هذه الحالة بمنزلة الموادعين للمسلمين وأهل الحرب متى طلبوا موادعتهم من المسلمين لم يجب على المسلمين موادعتهم إلا أن يكون فيها خير للمسلمين ظاهراً فكذلك هاهنا لا يجب قبول هذه الذمة منهم بخلاف ما إذا أسلموا لأن الإسلام يصح من غير قبول من الإمام فإذا أسلموا صاروا مسلمين فلا يتعرض لهم الأمير بعد الإسلام ولكن يخلف فيهم رجلاً يجري فيهم حكم المسلمين إن قدروا وإلا يتركهم على ذلك وقد أسلم أهل نجران وأهل اليمامة وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم كثير من المشركين فتركهم على ذلك فإن أجابوا إلى التحول إلى دار الإسلام فليس ينبغي للمسلمين أن يأبوا عليهم وإن علموا أنهم يظفرون بهم لأنهم في الحال ممتنعون فلم يصيروا فيئاً للمسلمين فيجب قبول ذلك منهم والكف عنهم فإن كان المسلمون تركوا فيها قوماً من المسلمين قووا على المشركين من أهل الحرب إذا أعانهم أهل الذمة فقال أهل المدينة‏:‏ نكون ذمة لكم وتخلفون قوماً نقاتل معهم فليس ينبغي للأمير أن يفعل هذا لوجهين أحدهما‏:‏ أن في هذا تعريضاً للمسلمين على الهلاك إذ أهل الذمة كفار فلا يؤمن أن يغدروا بهم ويقتلوهم ولأن المسلمين إذا لم يقدروا على إجراء حكم المسلمين إلا برضاء أهل الذمة كان أهل الذمة هم الذين يجرون أحكام المسلمين وأحكام المسلمين لا يجربها إلا المسلمون فإن طلب أهل الردة الموادعة من المسلمين حتى ينظروا في أمرهم فلا بأس للمسلمين أن يوادعوهم لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال‏:‏ هلا حبستموه في بيت وطينتم عليه باباً واستتبتموه ثلاثة أيام فإذا ثبت في الواحد ثبت في الجماعة وأهل البغي من المسلمين مثل الخوارج وغيرهم إذا طلبوا إلى المسلمين الموادعة من أهل العدل حتى ينظروا في أمرهم فلا بأس أن يوادعهم أهل العدل لأنهم مسلمون فهم أولى بالموادعة من المرتدين ولكن لا ينبغي لأهل العدل أن يأخذوا على ذلك خراجاً لأن الخراج يشبه الجزية وهم مسلمون فلا يؤخذ منهم خراج فإن أخذوا منهم الخراج يوقف ذلك حتى إذا تابوا رد عليهم لأن مال أهل البغي لا يغنم فيرد عليهم ألا ترى أن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - رد على أهل البغي ما لهم حتى يلغه الكلب فإن قتلوا رد إلى ورثتهم فإن لم يعرفوا كان بمنزلة اللقطة في يد إمام المسلمين فإن لم يرجع أهل البغي ولم يتوبوا حتى استهلك رجل من المسلمين بعض تلك الأموال التي أخذ منهم المسلمون فهو ضامن لأن أهل البغي موادعون فمالهم في أمان من المسلمين ولو كان الكفار موادعين فأتلف واحد من المسلمين مال واحد منهم ضمن فهاهنا أولى أن يضمن ولو لم يكونوا موادعين فأخذ رجل من أهل العدل شيئاً من أموالهم فإنه إذا وضعت الحرب أوزارها يرد عليهم فإن استهلكه مستهلك وهم على حربهم لم يضمن لأنه لو أتلف نفسه لا يضمن فكذلك إذا أتلف ماله لا يضمن فإن لم يستهلكه حتى وضعت الحرب أوزارها فتفرقوا ثم تابوا ثم استهلكه ضمن للمالك أو للورثة لأنه مال مسلم غير محارب في حالة الاستهلاك فيضمن بالاستهلاك كما في سائر أحوال المسلمين والله أعلم ولو أن أمير الجند من المسلمين افتتحوا حصناً من حصون المشركين من أهل الحرب فكان في ذلك الحصن مطمورة فيها قوم يقاتلون فأسلموا فإن كان المسلمون قاهرين لهم فهم فيء بين من أصابهم يخمسون وما بقي فهو فيء لمن أصابهم لأنهم إذا كانوا غير ممتنعين مقهورين فقد صاروا في أيدي المسلمين قبل إسلامهم فإسلامهم لا يبطل حق المسلمين فلا يقتلون لأنهم مسلمون والإسلام يحرزهم عن القتل ولا يحرزهم عن الاسترقاق فإن كانوا ممتنعين في المطمورة ولا يصل إليهم إلا بالقتال وأكبر الرأي من المسلمين أنهم سيظفرون بهم فأسلموا فهم أحرار لا سبيل عليهم لأنهم إذا كانوا ممتنعين فلم يصيروا في أيدي المسلمين فهؤلاء أسلموا قبل ثبوت أيدي المسلمين عليهم فكانوا أحراراً لأن المسلم لا يسترق وصار هذا بمنزلة أهل الحصن حوصروا فأسلموا وهم محصورون فهم أحرار لا سبيل عليهم فكذلك هاهنا وكذلك أهل المطمورة إذا دعوا المسلمين أن يكونوا ذمة لهم يخرجون معهم إلى بلاد المسلمين فإن كانوا غير ممتنعين وسع المسلمين ألا يعطوهم ذمة لأنهم صاروا في أيدي المسلمين وجرى عليهم السبي ومن طلب الذمة بعدما جرى عليه السبي فإنه لا يجاب إلى ذلك ولكن المسلمين إن شاءوا أن يجعلوهم فيئاً وإن شاءوا قتلوا المقاتلة وسبوا الذراري وإن كانوا ممتنعين ويرى المسلمون أنهم سيظفرون بهم لا ينبغي لأمير المسلمين أن يمنعهم عن ذلك بل يجعلهم أحراراً ذمة لأنهم لو سألوا الذمة قبل الاستغنام لم يمنعوا لما أن الذمة خلف عن الإسلام في أحكام الدنيا قال‏:‏ وإن حاصر أمير العسكر أهل مدينة من مدائن العدو فقال‏:‏ بعضهم نسلم وقال بعضهم‏:‏ نصير ذمة ولا نبرح منازلنا فإن كان المسلمون يقوون على أن يجعلوا معهم من المسلمين من يقوى على قتال من يحضر بهم من أهل الحرب ويحكم فيهم بحكم الإسلام فعل ذلك الأمير لأن إجراء أحكام المسلمين في دارهم ممكن والدار تصير دار المسلمين بإجراء أحكام المسلمين فيجعلها الإمام دار إسلام ويجعل القوم أهل ذمة فإن كان المسلمون لا يقوون على أن يجعلوا في دارهم من المسلمين من يقاتل مع أهل الحرب لم يجيبوا الذميين إلى شيء من ذلك إلا أن يخرجوا عن تلك الدار إلى دار الإسلام لما قلنا أن هذا ليس بذمة منهم إما هذا طلب الموادعة وليس على المسلمين أن يوادعوهم وأما الذين أسلموا معهم فهم أحرار ولا يمنعون من المقام ببلادهم لأن الحر المسلم لا يجبر على التحول من دار إلى دارغيره فإن قال المسلمون‏:‏ دعوا معنا قوماً من المسلمين يكونون قوة لنا على أهل الحرب فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان من يترك معهم في دار الحرب يقوون على أهل الحرب له أن يفعل فعل ذلك لأنه يمكنه أن يجعله دار الإسلام من غير ضرر على المسلمين فكان عليه أن يفعل ذلك وإن كان من يترك من المسلمين لا يقوون إلا بمن أسلم من أهل الحرب فإن خاف على المسلمين من الذين أسلموا منهم أن يرتدوا فيقتلوا المسلمين فإنه لا ينبغي له أن يخلف أحد من المسلمين لأن فيه إتلاف عدة من المسلمين وإن علم حقيقة إسلام الذين أسلموا من أهل الحرب وأنهم مناصرون لأهل الإسلام لم أر بأساً أن يجعل معهم من المسلمين نم يقوى بهم ويقوون به ويؤمر عليهم أميراً يحكم بحكم أهل الإسلام في تلك المدينة لما قلنا إن الإمام متى أمكنه أن يجعل المدينة داراً للإسلام من غير ضرر على المسلمين فعل وقد أمكنه ذلك فإذا فعل هذا فلا بأس بأن يقبل بعد ذلك من أهل الحرب أن يكون ذمة ممن يقوم ببلاده لأن المدينة صارت داراً للإسلام ومن سأل الذمة في دار الإسلام وحكم المسلمين وجبت إجابته إليه وإن رأى الإمام في جميع ما سألوا أن يقبل منهم أن يكونوا ذمة فإن طابت أنفسهم بالخروج معهم إلى دار الإسلام فرأى قتالهم حتى يسلموا أو يظفروا بهم فقاتلهم وظفر بهم فخمسهم وقسم ما بقي منهم عل سهام الغنيمة جاز ذلك لأنه قاتلهم وهم أهل حرب لا أمان لهم ولكن الأمير أخطأ حين لم يقبل الذمة لأن قبول الذمة واجب فقد ترك ما هو واجب فيكون مخطئاً في ذلك وإذا دعوا إلى أن يسلموا فهذا لا يحل لأحد أن يأبى عليهم لأن القتال شرع لأجل الإسلام فلا معنى لرد الإسلام والقتال شرع لأجله فإن أباه عليهم فأسلموا ثم قاتلوا وظفر عليهم خلى سبيلهم وسلمت لهم أموالهم وبطل ما كان حكم فيهم من سبي أو قسمة لأنهم لما أسلموا صح إسلامهم لأنه لا يحتاج فيه إلى رأي الإمام فقد قاتلوهم وهم مسلمون في دار الإسلام والمسلم لا يسترق ولا يستغنم ماله فيضمنون ما أتلفوا من أموالهم وما أراقوا من دمائهم وإن كانوا دعوا إلى أن يسلموا ويكف عنهم فأبى الأمير أن يجيبهم إلى ذلك فقاتلهم ولم يسلموا فأصابهم فقد أخطأ فيما صنع لما قلنا‏:‏ أنهم لو طلبوا الذمة وجب الكف عنهم فإذا طلبوا الإسلام أولى أن يكف عنهم ومن قتل منهم فدمه موضوع وما استهلك من أموالهم فلا ضمان فيه لأن المسلمين أصابوا ذلك منهم هم كفار لأنه لم يوجد منهم إلا إرادة الإسلام وبالإرادة لا يصير مسلماً فدم الكافر وضمان ماله موضوع وأما ما بقي منهم ومن أموالهم فإن أسلموا رد ذلك كله إليهم وكانوا أحراراً لا سبيل عليهم لأنهم لما سألوا أن يسلموا ويكف عنهم فقد حرم على المسلمين مقاتلتهم وأسرهم فلما حرم عليهم أسرهم لم يملكوهم بالأسر فبقوا أحراراً لا سبيل عليهم بخلاف ما إذا طلبوا الذمة من المسلمين وقاتلهم الإمام وظهر عليهم وقسمهم فإنهم لا يردون أحراراً توضع عليهم الجزية لأن هناك سألوا البقاء على الكفر والكفر سبب لإباحة القتل والسبي في الأصل فالإمام إنما سباهم ومنعهم الذمة في موضع يسع فيه اجتهاد الرأي فينفذ حكمه وجاز سببه فلا يرد فأما هاهنا سألوا من الإمام الكف عنهم ليسلموا الإسلام عاصم فحرمة السبي هاهنا أقوى وآكد فلا يسع فيه اجتهاد الرأي فإذا أسلموا فقد ظهر خطأ الإمام بيقين فعليه أن يمنع عن خطئه ويردهم أحراراً يدل عليه أن القصد إلى الإسلام معتبر بحقيقة الإسلام والمسلم حقيقة إن حارب المسلم لا يسبى فكذلك إذا قصد الإسلام وأما القصد إلى الذمة معتبر بحقيقة الذمة والذمي حقيقة إذا حاربه المسلم في فئة ممتنعة يسبى ويسترق فكذلك إذا اعتبر القصد بالحقيقة والله الموفق وهو أعلم بالصواب‏.‏